بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

هل "علم اللغة" علم؟ Is "linguistics" aware?

ثانيا: هل "علم اللغة" علم؟
يعرف علم اللغة1 عادة بأنه العلم الذي يختص بمجال اللغة أو أنه الدراسة العلمية للغة، ويجب ألا يمر دون دون تعليق الواقع الفعلي الخاص بوجود قسم في هذا الكتاب، وفي الدراسات التمهيدية الأخرى لعلم اللغة، يخصص بشكل واضح لمناقشة الوضع العلمي لعلم اللغة، ورغم كل شيء فإن فروع المعرفة ذات المكانة العلمية غير المتنازع عليها لا تشعر بالحاجة إلى تحقيق دعواها بكونها علوما، لماذا يعنى علم اللغة بالدفاع عن أحقية هذا اللقب؟ ولماذ وهو بصدد الدفاع عن مصداقية علميته يعطي انطباعا عن إصرار زائد إلى حد بعيد؟ للقارئ الحق كل الحق في أن يكون شاكا ومرتابا.
__________
1 وقد استخدم في الآونة الأخيرة مصطلح "العلوم اللغوية "Linguistic sciences" يشمل كلا من علم اللغة "Linguistics" وعلم الأصوات "phonetics" بيد أن مصطلح "علم اللغة" لا يزال مفصلا.

والنقطة الأولى التي يجب الإشارة إليها أن كلمة "science"؛1 في اللغة الإنجليزية أضيق بكثير -من حيث ما تشير إليه- من كثير من الكلمات المترجمة المكافئة لها والمقبولة تقليديا في اللغات الأخرى مثل "wissenchaft" الألمانية، و"nauka" الروسية، وحتى "sciencs" الفرنسية، ويعاني علم اللغة أكثر مما تعانيه معظم فروع المعرفة من المتضمنات الخاصة إلى حد بعيد للكلمتين الإنجليزيتين "science" و"scientific" اللتين تشيران أولا وقبل كل شيء إلى العلوم الطبيعية ومناهج البحث المميزة لها، ويظل هذا صحيحا على الرغم من أن عبارات مثل: "العلوم الاجتماعية"، و"العلوم السلوكية"، وحتى "العلوم الإنسانية" شائعة بشكل متزايد، فهل يجب علينا إذن أن نفسر كلمة "science" الواردة في عنوان هذا القسم لتعني ببساطة: "فرع أكاديمي من فروع المعرفة مؤسس على نحو لائق"؟
__________
1 علم.

ويوجد المزيد مما يتصل بهذه المسألة خلاف هذا التفسير المقترح، ومعظم اللغويين الذين يؤيدون تعريف تخصصهم بالدراسة العلمية للغة يفعلون ذلك؛ لأنهم يحملون في أذهانهم ما يميز الطريقة العلمية والطريقة غير العلمية في معالجة الأمور، وربما كانوا على خلاف حول بعض متضمنات مصطلح "علمي" كغيرهم من فلاسفة العلم ومؤرخيه، إلا أنهم متفقون- بصفة عامة- حول الاختلافات الأساسية بين الدراسة العلمية للغة والدراسة غير العلمية لها، ولنبدأ إذن بنقاط الاتفاق هذه.
أولى هذه النقاط وأهمها أن علم اللغة تجريبي أكثر منه حدسي أو تأملي فهو يتعامل مع المعلومات الواضحة التي يمكن التثبت منها والتي حصلنا عليها عن طريق الملاحظة أو التجربة، والإنصاف بالتجريبية -بهذا المعنى- يعد السمة المميزة إلى حد بعيد للعلم في نظر معظم الناس، ويرتبط بخاصة كونه مؤسسا بطريقة تجريبية كونه موضوعيا، واللغة شيء ما نميل إلى أخذه كقضية مسلم بها، وشيء ما نألفه منذ الطفولة بطريقة عملية بعيدة عن التفكير وهذه الألفة العملية تميل إلى أن تحل محل الفحص الموضوعي، وتوجد كل أنواع التحيزات الاجتماعية، والثقافية, والقومية المرتبطة بوجهة نظر غير المتخصص في اللغة وفي اللغات المعينة، فعلى سبيل المثال قد يعتقد أن نبرة أو لهجة للغة ما معينة أنقى بشكل متأصل من غيرها أو مرة أخرى ربما كانت أكثر بدائية من غيرها، وتتطلب الموضوعية -على الأقل إلى حد بعيد- أن تقابل معتقدات كهذه بالتحدي، وإما أن نحدد مصطلحات كنقي وبدائي بشكل واضح أو تستبعد.
وكثير من الأفكار التي تدور حول اللغة والتي يخضعها اللغوي للمناقشة إذا لم يتخل عنها تماما قد تبدو قضية معنى شائع بكل ما في الكلمة من معنى، غير أنها كما علق بلومفيلد على طريقة المفاهيم الشائعة في التعامل مع القضايا اللغوية "تشبه الأمور الكثيرة الأخرى التي تبدو على غير حقيقتها كمفهوم شائع، وهي في الحقيقة معقدة بدرجة عالية، ومأخوذة من أمد غير بعيد من تأملات فلاسفة العصور القديمة والوسطى"، وليس لدى اللغويين جميعهم ما لدى بلومفيلد من نظرة عدم الرضا لهذه التأملات الفلسفية عن اللغة، لكن ما يقصده -بصفة عامة- صحيح، فالمصطلحات التي يستخدمها غير المتخصص في الحديث عن اللغة، والمواقف التي يتخذها إزاءها لها تاريخها، وستبدو عادة تلك المصطلحات والمواقف -بوضوح- قل تسليما بها أو أقل قابلية للتطبيق أو الاستعمال إذا ما عرف شيئا عن أصولها التاريخية.
ولن نبحث تاريخ علم اللغة في هذا الكتاب، ومع ذلك فإن بعض التعليقات العامة مرتبة، ومن عادة الدراسات التمهيدية لعلم اللغة أن ترسم مميزا حادا بين النحو التقليدي وعلم اللغة الحديث واضعة للمواقف العلمية لعلم اللغة الحديث في مواجهة المواقف غير العلمية للنحو التقليدي، ويوجد مبرر جيد لرسم هذا المميز، وإظهار أن الكثير من التصورات الخاطئة الشائعة عن اللغة والمتداولة في مجتمعنا يمكن تفسيرها تاريخيا من خلال الافتراضات الثقافية والفلسفية التي تحدد تطور النحو التقليدي, وسنذكر بعض هذه التصورات الخاطئة وسنتناولها بالمناقشة في القسم التالي، ومع ذلك ينبغي أن نؤكد على أن علم اللغة -كغيره من فروع المعرفة- لم يشيده في الماضي تحدي القواعد والأصول التقليدية فحسب بل تطويرها وإعادة تشكيلها أيضا، وتهمل أكثر الأعمال الحديثة في علم اللغة وهي بصدد وصفها المتقدم العظيم الذي حدث في البحث العلمي في اللغة في المائة سنة الماضية التأكيد على استمرارية النظرية اللغوية الغربية من مهدها إلى وقتنا الحاضر، وتنطوي على مفارقة تاريخية إلى حد ما أيضا في فشلها في معالجة النحو التقليدي من خلال الأهداف التي حددها بنفسه، ويجب ألا ننسى أن المصطلحين: علم, وعلمي "أو إرهاصاتهما" قد فسرا تفسيرا مختلفا في مراحل مختلفة.
ويجب أن نوضح أن ما يشار إليه بصفة عامة بواسطة مصطلح "النحو التقليدي" -أي: النظرية اللغوية الغربية التي ترجع إلى عصر النهضة، وفي العصور الوسطى إلى الرومان وتعود قبل ذلك إلى المدرسة الإغريقية- أكثر ثراء وتنوعا مما هو معروف بشكل شائع، وأكثر من ذلك فمن المعناة كثيرا أن يدرس تلك الصورة المشوهة غير المفهومة للنحو التقليدي أجيال من الطلاب الكارهين لها، وفي السنوات القليلة الماضية بدأ اللغويون في تبني وجهة نظر أكثر توازنا بشأن إسهام النحو التقليدي- وسنواصل استخدام هذا المصطلح- في تطوير تخصصهم العلمي، ولا تزال كثير من البحوث تجري حول المصادر الأساسية المتبقية من الفترات الأولى إلا أن العديد من الكتب التي تؤرخ لعلم اللغة المتاحة في الوقت الحاضر تقدم بيانا مرضيا حول نشأة النحو التقليدي وتطوره أكثر مما كان متاحا لجيل بلومفيلد والجيل التالي له.
دعنا الآن نعود إلى الحالة الراهنة لعلم اللغة، إنه -بلا ريب- أكثر موضوعية وتجريبية في مواقفه وافتراضاته المعلنة في كل الأحوال من النحو التقليدي، وسنلقي نظرة أكثر تفصيلا على بعض هذه المواقف والافتراضات في القسم التالي، لكن هل هو -عتد التطبيق- تجريبي وموضوعي كما يدعي هناك -بالتأكيد- مجال للشك، ويوجد أيضا مجال للاختلاف في أكثر مستويات المناقشة تعقيدا فيما يتعلق بطبيعة الموضوعية العلمية وإمكانية تطبيق ما يشار إليه -عموما- بالمنهج العلمي في دراسة اللغة.
وفي واقع الأمر لن يقبل العلماء وفلاسفة العلم بوجود منهج تحقيق مفرد يمكن تطبيقه في كل فروع العلم لفترة طويلة وعلى نطاق واسع، ومصطلح "المنهج العلمي" بالذات أصبح عتيقا وباليا منذ القرن التاسع عشر، ويعتقد أحيانا أن التحقيق العلمي يجب أن يقوم على أساس التعميمات الاستقرائية المؤسسة على الملاحظة الحرة نظريا، وهو في الحقيقة ما يتمسك كثير من الناس بأن مصطلح "المنهج العلمي" يتضمنه، لكن القليل من العلماء هم الذين يعملون وفق هذه الطريقة دائما حتى في العلوم الطبيعية، وعلى كل حال فإن الموضوعية العلمية معناها لا يتضمن بالتأكيد أن العالم يجب أن يمتنع عن التنظير وعن صياغة الفرضيات العامة حتى يجمع القدر الكافي من المعلومات، فالمعلومات العلمية التي تظهر عادة تستمد من التجربة ولا تخضع لها، وتتضمن الملاحظة اهتماما مختارا، فليس هناك شيء مثل نظرية محايدة، وملاحظة غير مقيدة بفرضية، ومجموعة معلومات، ويمكننا أن نستخدم عبارة حديثة متداولة وهي إن الملاحظة بالضرورة ومنذ البداية نظرية محملة وهذه العبارة يرجع أصلها إلى بوبر.
والعبارة مثيرة للفكر والجدل، وقد نشأت رد فعل لوجهة النظر التجريبية القوية في العلم التي طرحها أصحاب المذهب الوضعي المنطقيون في الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية، وطلاب علم اللغة يجب أن يعرفوا شيئا ما عن المذهب التجريبي1، والمذهب الوضعي2، وبدون هذه المعلومات- رغم أنه لا حاجة إلى التعمق أو التفاصيل- من غير المتوقع أن يفهموا بعض المقالات النظرية والمنهجية التي تصنف مدارس علم اللغة في الوقت الحاضر، وما يلي يعد الحد الأدنى الضروري من المعلومات الخلفية نقدمها -بقدر الإمكان- بغير تحيز وبغير التزام بأي جانب في مجالات المناقشة المعروفة، والمناقشات التي يجب إضافتها وثيقة الصلة ليس بعلم اللغة فحسب ولكن بالعلم ككل، ولكن لها ارتباط خاص باللغوي بصدد تلك التطورات الحديثة في علم اللغة وفلسفة اللغة المرتبطة بأعمال تشومسكي وأفكاره التي لها أثرها الجدير بالاعتبار إلى حد بعيد على المناقشة الأعم الخاصة بالمذهب التجريبي والمذهب الوضعي التي أثارها الفلاسفة وعلماء النفس والعلماء الاجتماعيين الآخرين "انظر 7 - 4".

__________
1 المذهب التجريبي "empiricism" ينكر وجود مبادئ أولية خاصة بالعقل ويقرر أن التجربة مصدر المعرفة.
2 المذهب الوضعي "positivism" مذهب أوجست كونت الذي يقرر أن الفكر الإنساني لا يدرك سوى الظواهر الواقعة المحسوسة وما بينهما من علاقات أو قوانين وأن المثل الأعلى لليقين يتمثل في العلوم التجريبية وأنه يجب من ثمة العدول عن كل بحث في العلل والغايات ويدل كونت على نسبية معارفنا بعرض تاريخ العقل فيقول: إن العقل مر بحالات ثلاث: حالة لاهوتية، وحالة ميتافيزيقية، وحالة واقعية.
والمذهب التجريبي يتضمن ما هو أكثر بكثير من تبني الطرق التجريبية في التحقيق والإثبات، ولذلك يوجد مميز حاسم يرسم بين التجريبي "empiricist" والاتصاف بالتجريبية "cmpirical"، ومصطلح "المذهب التجريبي" يشير إلى وجهة النظر التي تذهب إلى أن كل المعلومات تأتي عن طريق التجربة -والكلمة الإغريقية "empeiria" تعني تقريبا "التجربة" وعلى الأخص الآتية من الملاحظة والمعلومات الحسية، ويقابل مصطلح "المذهب العقلي" في جدال فلسفي استمر طويلا, وهي من الكلمة اللاتينية "ratio" وتعني في هذا السياق العقل "mind/ inellect /resson" ويؤكد أتباع المذهب العقلي على الدور الذي يلعبه العقل في اكتساب المعرفة ويتمسكون -بصفة خاصة- بوجود تصورات أو قضايا أولية1 "تعني كلمة أولية في التفسير التقليدي لها "المعرفة التي لا تعتمد على غيرها"" يفسر العقل في ضوئها المعلومات المستمدة من التجربة، وسوف نعود إلى بعض الجوانب الأخرى الأكثر خصوصية من الجدل الدائر بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي2 عند مناقشتنا للتوليدية "انظر 7 - 4". ولسنا في حاجة -فيما نحن بصدده- لرسم مميز بين المذهب التجريبي والمذهب الوضعي فالأول له تاريخ أطول وهو أرحب مجالا باعتباره موقفا فلسفيا، لكنهما صهران طبيعيان مرتبطان ارتباطا وثيقا بكل ما يعنينا هنا، ويعتمد المذهب الوضعي على المميز بين ما يسمى بالمعلومة الوضعية للتجربة والتأمل الواقع وراء نطاق الخبرة بأنواعها المختلفة، ويتجه المذهب الوضعي إلى أن يكون علمانيا مجافيا لما وراء الطبيعة من حيث النظرة، ويستبعد أي احتكام للكينونات اللافيزيائية، وقد كان هدف المناطقة من أتباع المذهب الوضعي في دائرة فينا إنتاج نظام مفرد للعلم الموحد تتمثل فيه الكتلة الكلية للمعرفة الوضعية وهي في نهاية المطاف مثل مجموعة من القضايا المصوغة صياغة دقيقة.
__________
1 أي: تلك التصورات والقضايا التي تصلح لأن تكون مقدمات لما بعدها وليست مستنتجة من تصورات أخرى قبلها.
2 يذهب العقليون إلى أن العقل هو الأصل الذي يصدر عنه كل علم=

وقد تخلى في الوقت الحاضر مبدأ التحقيق والإثبات "على الرغم من أنه يلعب دوره في صياغة نظرية الحقيقة المشروطة للمعنى "انظر 5 - 1"" ويجوز مبدأ الردية "reductionism" قبولا أقل بكثير -بصفة عامة- من قبل العلماء والفلاسفة عما كان الأمر عليه عندما كتب بلومفيلد كتابه الأساسي المشهور في علم اللغة عام 1933، وذكر بلومفيلد في هذه النقطة لأنه ولا عجب ألزم نفسه بشدة بالمذهبين التجريبي والوضعي، وهو ما يتضح بشكل حقيقي بينما يذهب التجريديون إلى أن التجربة مصدر العلم ويشبهون العقل قبل التجربة بصفحة بيضاء وقد يسمى هذا المذهب بمذهب الحسين وثمة مذهب ثالث هو مذهب النقديين الذين يحاولون التوفيق بين الدعوى المتعارضة التي يدعيها أصحاب المذهبين الآخرين ويمكن القول بأن الفارق بين المذهب العقلي والمذهب التجريي أن أتباع المذهب الثاني يرفضون أفكار أتباع المذهب الأول رفضا تاما, بينما لا ينكر أتباع المذهب الأول إلا أن يكون هناك علم ضروري صادق مصدره التجربة وحدها فالعقل له القدرة على ابتداع المعاني والتصورات وللتأليف بينها بفطرته ويطبع العلم الإنساني برمته بطابع الصدق والحمق.
إلى حد بعيد في الفصل الثاني من كتابه، وقد ارتبط -في الواقع- ارتباطا وثيقة بحركة وحدة المعرفة، وأقرت كلية مبدأ الردية الأمر الذي جعله أكثر من أي شخص آخر بالنسبة لعلم اللغة -وبصفة خاصة في أمريكا- مثالا للعلمية الحقيقية، ومن ثم يوجد ميراث للمذهبين التجريبي والوضعي في علم اللغة يمكن بيانه تاريخيا.
ولم يعد مبدأ الردية المذهب الوضعي بصفة أعم مثيرا لمعظم العلماء كما كان الأمر يوما ما، ومما هو مقبول اليوم على نطاق واسع أنه ليس هناك ما يعد منهجا علميا واحدًا يمكن تطبيقه في كل المجالات، وأنه لا يسمح بوجود مداخل متنوعة باعتبارها مسألة ضرورة قصيرة الأمد في فروع المعرفة المختلفة فحسب ولكن قد يكون ذلك مبررا لمدة طويلة أيضا بسبب الاختلافات الخاصة بموضوعات البحث التي لا يمكن اختزالها، وقد عبر بعض فلاسفة العلم عن شكوكهم حول منهاج أتباع المذهب الوضعي بصدد تفسير العمليات العقلية بواسطة المناهج والتصورات المميزة للعلوم الطبيعية وذلك منذ القرن السابع عشر أيام ديكارت وهوبز، وكثير من علم النفس وعلم الاجتماع في القرن العشرين ومثله الكثير مما يدخل في علم اللغة في القرن العشرين يتصف بالوضعية، غير أن -فروع المعرفة الثلاثة كلها وبصورة أكثر وضوحا علم اللغة- دخلت فيها الوضعية حديثا تحت وطأة اعتبارها عقيمة وغير قادرة على أداء مهامها.
قصارى القول إنه لم يعد هناك إجابة مرضية عما إذا كان فرع من فروع المعرفة يتصف بالعلمية أم لا يتصف بها حتى لو كانت الإجابة ممكنة عن طريق الرجوع إلى ما يعرف بالمنهج العلمي، وكل علم مؤسس بشكل جيد يستخدم أبنيته النظرية المميزة ومناهجه الخاصة به في الحصول على المعلومات وتفسيرها، وما أشرنا إليه في الفصل السابق كتصور -النظام اللغوي- يمكن أن يوصف بطريقة أكثر علمية كبناء نظري، والقضايا التي يمكن أن تثار حول حقيقة هذه الأبنية تشبه إلى حد كبير تلك التي يمكن أن تثار حول الأبنية الموجودة في الطبيعة والكمياء الحيوية، ومع ذلك فمن الأفضل أن نتعرف على كل بناء نظري معروض من حيث ما يفي به فيما يتعلق بالمعلومات.
وكل ما قلناه عن المذهب التجريبي والمذهب الوضعي وعن المكانة الراهنة لما يعرف بالمنهج العلمي يميل إلى أن يكون حقيقيا وغير متنازع عليه، ولنتحول الآن إلى نقاط الاختلاف.
النقطة الأولى تتعلق بما تتضمنه فكرة بوبر الخاصة بالملاحظة التي تتصف بالنظرية المحملة، والخلاف حول استخدام مصطلح نظرية، وما يذكره بوبر مهجما له المميز الحاد الذي رسمه المناطقة أتباع المذهب الوضعي بين الملاحظة التي يلزم أن تكون محايدة نظريا وبنية النظرية التي يلزم أن تكون حالة من التعميم الاستقرائي، ولقد كان -بلا شك- على حق في تحديه حدة هذا المميز وعلى الأخص وجهة النظر التي تذهب إلى أن الملاحظة ومجموعة المعلومات يمكن -ويجب- أن تخطو خطوات إلى الأمام بصدد صياغة الفرضيات، وثمة قضية شائعة فاختيار المعلومات تحدده بعض الفرضيات التي يرغب العالم في اختيارها وليست القضية كيفية الوصول إليها، وحقيقية إن مفهوم أتباع المذهب الوضعي في عدم اختيارية الملاحظة ومجموعة المعلومات غير صحيح لا يعني عدم وجود فاصل -على الإطلاق- بين تصورات النظرية، وتصورات ما قبل النظرية، ومن التعامل السيئ لمصطلح نظرية أن ندرج تحتها كل الأفكار المكونة سلفا، والتوقعات التي يدنو بها المرء مما يمكن ملاحظته ويصنع اختياره، وسنتناول المميز بين تصورات النظرية وتصورات ما قبل النظرية في مواضع عديدة في الفصول الأخيرة، وسنفترض أن الملاحظة- رغم أنها مختارة بالضرورة -يمكن أن تكون موضع ضوابط منهجية مرضية في علم اللغة كما هو الحال في العلوم التجريبية الأخرى.
ونقطة الخلاف الثانية وهي ذات أهمية خاصة في علم اللغة في الوقت الحاضر تتعلق بدور الحدس والمشكلات المنهجية التي تثار في هذا الشأن، ويحمل مصطلح "حدس" في طياته ارتباطات يومية إضافية غير ملائمة، وكل ذلم مضمر عندما يشار إلى حدس المتكلم الأصلي عن لغته وهي أحكامه اللغوية غير المكتسبة بالثقافة حول قبول الأقوال أو عدم قبولها، وحول الأقوال التي تتكافأ أو التي لا تتكافأ وهلم جرا، وجاءت فترة اعتقد فيها بعض اللغويين -من حيث المبدأ- إمكانية التخلص من ضرورة سؤال المتكلمين الأصليين أن يصدروا مثل هذا الأحكام التخلص من ضرورة سؤال المتكلمين الأصليين أن يصدروا مثل هذه الأحكام الحدسية عن لغتهم ببساطة عن طريق جمع مجموعة كاملة ضخمة -بشكل كاف- من المعلومات المذكورة بطريقة محايدة وإخضاعها للتحليل الشامل المنظوم، ولا يأخذ بهذا الرأي في أيامنا هذه سوى قلة من اللغويين، وأصبح من الواضح أن كثيرا من الأقوال المذكورة بطريقة طبيعية تكون -لأسباب غير متصلة باللغة- غير مقبولة كما أنه لا توجد مجموعة كاملة من المواد مهما كانت ضخامتها تشمل أمثلة من كل نوع من الأموال المقبولة، غير أن تعامل اللغوي مع الشاهد الحدسي يظل موضع خلاف ولهذا الخلاف شقان.
الأول يتعلق بقضية ما إذا كان الحدس الذي يشير إليه اللغوي يعد جانبا من القدرة اللغوية للمتكلم الأصلي أم لا، ولو أن الأمر كذلك فتبعا لتعريف تشومسكي للقدرة وحسب صياغته لأهداف علم اللغة يصبح الحدس نفسه جانبا ينبغي على ما وصف أي لغة معينة أن يقدم بشكل مباشر بيانا عنه، وقد لا يرغب معظم اللغويين في القول بأن وصف لغة ما ينبغي أن يعالج حدس المتكلم الأصلي باعتباره معلومات وسنعود إلى هذه القضية عند مناقشتنا للتوليدية.
والجانب الثاني من الخلاف يتعلق بكون أحكام المتكلم الأصلي كتقريرات أو أخبار عن السلوك اللغوي الخاص به وبغيره جديرة بأن يعول عليها، والرأي العام المجمع عليه بين اللغويين يبدو أنه يذهب إلى أن مثل هذه الأحكام -في جوانب معينة على الأقل- غير جديرة بالاعتماد عليها إلى حد بعيد، فالمتكلمون الأصليون لا يختلفون فيما بينهم على نحو متكرر حول ما يمكن قبوله عندما لا يكون هناك سبب آخر يدعو للاعتقاد بأنهم يتكلمون لهجات مختلفة فحسب ولكن أحكامهم يبدو أنها تتغير من حين لآخر، وأكثر من ذلك فإنه كثيرا ما يحدث أن يستبعد متكلم أصلي بعض الأقوال التي يضعها أمامه اللغوي الوصفي على أنها غير مقبولة, ثم إذا به يسمع أو يسمع نفسه يصدر ذلك القول نفسه في بعض سياقات الاستخدام الطبيعية، وبقدر ما يلقى استبطان اللغوي لغته من اهتمام فإنها على الأقل غير جديرة بالاعتماد عليها مثل حدس غير المتخصص، وإن كان ذلك يرجع عادة لأسباب أخرى، وقد يكون اللغوي أقل اهتماما من غير المتخصص بالمستويات المشتركة التقليدية للاستخدام الصحيح "فعلى سبيل المثال يقبل بسهولة تامة أنه من الطبيعي أن يقول lts me أكثر من lt is I" غير أن أحكامه أكثر عرضة لأن يشوهها إدراكه لم فيها من تضمينات لهذا الموضوع النظري أو ذاك، واستبطان اللغوي سلوكه اللغوي الخاص به وبغيره يمكن أن يعد- بصور جيدة- نظرية محملة إذا لم تعد الملاحظة المباشرة للحوار التلقائي كذلك.
وهناك في الحقيقة مشكلات منهجية هامة إلى حد بعيد تتعلق بمجموعة المعلومات الجديرة بأن يعول عليها في الإطار الكلي لموضوعات علم اللغة النظري إلا أنها ليست أكثر خطرا من تلك المشكلات المنهجية التي تواجه أولئك الذين يعملون في علم النفس أو علم الاجتماع أو العلوم الاجتماعية بصفة عامة، واللغوي في جوانب معينة في وضع أفضل مما فيه معظم العلماء الاجتماعيين حيث يتضح له إلى حد ما مدى ما يمكن ملاحظته في السلوك اللغوي ومدى ما لا يمكن ملاحظته، وأكثر من ذلك توجد مجالات جديرة بالاعتبار إلى حد بعيد في وصف أي لغة لا يكون -بالنسبة له- عول حدس المتكلم الأصلي وحتى استبطان اللغوي قضية خطيرة لذلك يجب ألا يبالغ المرء في المشكلات المنهجية التي تظهر في مجال البحث اللغوي.
وقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى علم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم الاجتماعية الأخرى وكثير من اللغويين وربما الأغلبية منهم يصنفون تخصصهم المعرفي ضمن العلوم الاجتماعية، غير أن علم اللغة لا يمكن تصنيفه بسهولة ضمن أي قسم من أقسام البحث الأكاديمي التي تعد أساسا للتفرقة بين العلم والفنون أو المميز الثلاثي للعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم أو الدراسات الثقافية، والاستخدام المتزايد لعبارات مثل: "علوم الحياة"، "والعلوم السلوكية"، "والعلوم الإنسانية"، و"علوم الأرض" تشير إلى أن كثيرا من فروع المعرفة تشعر بالحاجة إلى إعادة التصنيف الاستراتيجي أو التكتيكي الذي يراعي قليلا المميزات التقليدية.
وعلى كل حال فإن وجود علم اللغة -كتخصص جامعي- أو عدم وجوده في كلية دون أخرى يعد مسألة إدارية، وعلم اللغة كما أكدنا من قبل له روابطه الطبيعية بإطار أوسع من فروع المعرفة الأكادمية، والقول بأن "علم اللغة" علم لا ينفي أنه -بفضل موضوعات بحثه- يرتبط ارتباطا وثيقا بفروع معرفية إنسانية شهيرة مثل الفلسفة والنقد الأدبي.
وفي الفصول التالية سنذكر عددا من الأسس التي يسلم بها اللغويون في وقتنا الحاضر -بصفة عامة- وسنتناولها بالمناقشة، والجانب الأعظم منها يمكن أن يبدو مأخوذا من المثال العلمي للموضوعية، ومنذ أن أكد علم اللغة موضوعيته وصارت له استقلاليته التي ادعاها كثيرا في هذا الشأن عن النحو التقليدي أصبحت هذه الأسر تقف في مواجهة مع الأسس التي تحدد المواقف والافتراضات المميزة للنحو التقليدي.

المترجم : مصطفى زكي حسن التوني . القاهرة: 1987
المصدر : المكتبة الشاملة
الكتاب: اللغة وعلم اللغة المؤلف: جون ليونز
الناشر: دار النهضة العربية الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1




The translation below might be a lot of mistakes, so don't make this translation a reference, take a reference from the Arabic text above ! Thank You
Second: Is "linguistics" aware?

Linguistics 1 is usually defined as the science of the field of language or the scientific study of language. It must not pass without commenting on the actual reality of a section in this book and in other introductory studies of linguistics explicitly devoted to the discussion of the scientific status of linguistics, Branches of knowledge of undisputed scientific standing do not feel the need to pursue their claim as a scholar, why does linguistics mean defending this title? And why is he in the process of defending the credibility of his science gives the impression of too much insistence? The right reader has all the right to be Shaka and Mtraba.
__________
1 Linguistics sciences has been used recently, including linguistics and phonetics, but the term "linguistics" is still detailed.

The first point that should be pointed out is that the word "science" in English is much narrower in terms of what it refers to than many equivalent translated words that are traditionally accepted in other languages ​​such as German wissenchaft, nauka, and even "sciencs" French, and suffers more linguistics than most branches of knowledge of the very special implications of the two words "science" and "scientific" which refer first and foremost to the natural sciences and research methods distinctive, and remains true although Phrases such as "social sciences", "behavioral sciences", and even "humanities" are common Increasingly, do we then have to explain the word "science" in the title of this section simply to mean "an academic branch of knowledge is properly founded"?
__________
1 Flag.
There is more to this question than this proposed interpretation, and most linguists who support the definition of their specialization in the scientific study of the language do so because they bear in mind what distinguishes the scientific method and the non-scientific way of dealing with matters and may have been at odds with some of the implications of the term "scientific" Of the philosophers of science and historians, but they agree - in general - about the differences between the basic scientific study of the language and non-scientific study, and let us start with these points of agreement.

The most important of these points is that linguistics is more experimental than intuitional or contemplative. It deals with clear and verifiable information obtained through observation or experimentation. Experimental fairness - in this sense - is a highly distinctive feature of science in the eyes of most people, And something we have known since childhood in a practical way far from thinking and practical familiarity tend to replace the objective examination, and there are all kinds of social biases, cultural, national and related to the destination The eyes are not dead For example, it may be thought that the tone or tone of a particular language is inherently pureer than others or perhaps again more primitive than others, and requires objectivity - at least to a large extent - to meet such beliefs as a challenge, or To define clearly and prima facie terms.

Many of the ideas about language that language is subject to discussion, if not completely abandoned, may seem to be a matter of common sense, but as Bloomfield commented on the common concepts of dealing with language issues "similar to the many other things that appear to be Is not really true as a common concept, and it is in fact very complex, and taken not long after the meditations of ancient and medieval philosophers. "Not all linguists have Bloomfield's dissatisfaction with these philosophical reflections on language, but what he means - in general - true The terms used by non - specialist Talking about language and the attitudes it takes towards it has its own history, and those terms and attitudes will generally seem to be less recognized or less applicable or used if something is known about their historical origins.

We will not look at the history of linguistics in this book. However, some general comments are arranged. It is usually the preliminary studies of linguistics that draw a sharp distinction between traditional and modern linguistics, bearing in mind the scientific positions of modern linguistics in the face of non-scientific attitudes of traditionalism. To illustrate this characteristic, and to show that many of the common misperceptions about language and deliberation in our society can be interpreted historically through the cultural and philosophical assumptions that determine the evolution of traditional grammar, we will mention some of these misconceptions and we will discuss them in the next section, We emphasize that linguistics - like other branches of knowledge - has not only been challenged in the past by the challenge of traditional rules and assets but also by their development and remodeling, and neglects the most modern works of linguistics and describes the great progress that has been made in scientific research in the last 100 years The continuity of the Western linguistic theory from its cradle to the present, and also somewhat anachronistic in its failure to address the traditional way through the goals set by itself, and we must not forget that the terms: science, science, or "Ahrasathma" have interpreted a different interpretation Different stages.

Related Post:




0 Response to "هل "علم اللغة" علم؟ Is "linguistics" aware?"

Post a Comment

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel